رغم كل الإرث التاريخي والديني والعروبي لغزة وما أثبته علماء السير والتاريخ عنها لم يشفع هذا كله لا للحكام في المقام الأول ولا للشعوب في المقام الأخير أن تقدم شيئاً أو حلاً للمطالب المجمع عليها إنسانياً فضلاً عن دينياً للمنكوبين والمستغيثين في غزة!
إنه المشهد الوحيد ولربما المقالة الوحيدة التي لا تحتاج إلى خيال خصب، أو شطارة في رص الصفوف، فالصورة باتت أبلغ من ألف خطبة ومقالة!
إذاً لماذا نكتب؟!
إنها لربما كلمات تحفظ في سجلات الأمة لمن يقرأ منها، ويستوعب الأحداث، ويقرأ التحليلات العميقة الصادقة!
حقاً إنها كلمات صعبة ونادرة تلك التي تجمع بين العمق والصدع بالحق والصدق، وإذا كان أصحاب العروش لم يخشوا على كراسيهم رغم كل الصيحات والتنديدات الشعبية، فلا أظن أن هناك شيئاً سنخسره أو نخشاه إن صدعنا بقول الحق، وحللنا الواقع، وأصَّلنا الحقيقة.
قد لا أضيف شيئاً ذا بال إن قلت أن الحكام العرب انفصموا شخصياً وتسربلوا بذنوبهم، وتغشوا بأنانيتهم - إلا من رحم ربك-.
وقد لا أضيف شيئاً ذا بال إن قلت أنهم جشعون جداً وغير قادرون على التحكم في الموقف وأن التبرير لديهم سيد الموقف - إلا من رحم ربك-.
وقد لا أضيف شيئاً خطيراً إن صرحت أن بعضهم يغسل دماغ بعض بطريقة لائقة ومقبولة منطقياً ومسوغة عروبياً - إلا من رحم ربك-.
وقد لا أضيف معلومة مهمة عما قيل أنهم مطمئنون جداً ومسرورون لأبعد درجة أن تتفاعل الشعوب بالمظاهرات والتنديدات لغسل العار والذي يسمونه (تطييب الخواطر)، وإدراكهم مدى يأس كلماتهم أمام حلفائهم - إلا من رحم ربك-.
وقد لا أضيف أمراً معروفاً للمثقفين من تحديد تقاطعات حكام كل دولة عربية مع الأخرى في مصالح مكشوفة وعلاقات على طريقة (دق كؤوس الوسكي) - إلا من رحم ربك-.
وفي ظل كل هذه المشاهد تظهر بجلاء صور كل الخائنين من الحكام - إلا من رحم ربك-.
وفي المقابل قد يكون من نافلة القول التأكيد على صحة الأنباء المعلنة من أن حماس تملك قوة حقيقة، وأنها متهيئة للمقاومة، وأن خالد مشعل صرّح بأن حماس مستعدة للمعركة، ومهيئة بكب الاحتمالات شهور طويلة بلا هوادة،وأنها تملك ما تقاوم به. وأن كل أحزاب المقاومة الفلسطينية موحدة في القتال صفاً واحداً ضد العدوان.
وأنه ما تخلف عن المقاومة -إلا من رحم ربك-!
وفي سياق هذا المشهد بدا ولأول مرة في التاريخ المعاصر ظهور علماء لا ينتظرون أي مبادرة أو خطاب مساندة للمناصحة الحقيقية للحكام العرب والوقوف على اتجاه مواقفهم رغم تباين الاتجاهات، وتفاوت النتائج. وأن الجميع يعمل وفق رؤياه سلباً أو إيجاباً، وإن كان الإيجاب لا يمثل أسماءهم ولا مكانهم - إلا من رحم ربك-.
وتظهر في الصورة مواقف الشعوب العربية والمغلوب على أمرها التي خرجت صباحاً ومساءً، وفي شدِّة الشتاء القارص، بل وسهرت واعتصمت ليال طويلة عند الحدود والمعابر، وما قعد عن المناصرة الشعبية - إلا من رحم ربك-.
ولا غرو أن نرى في المشهد بيانات شرّقت وغربت، وفتاوى حاسمة وأخرى نائمة، وثالثة مندِّدة.
فالوقت كان يمر مرَّ الرياح لا السحاب، وكلٌ كتب ما رأى فيه المصلحة - إلا من رحم ربك-.
ويعود المشهد مرَّة أخرى على منظر الشعوب الثائرة المائجة، والجماعات الإصلاحية العاملة، وجمعيات وروابط العلماء، ومجموعات الشباب التي تكرر في كل حدث هائل قدّمنا صوتياً وكتابياً كل ما نملك - إلا من رحم ربك-.
ويمر المشهد سريعاً لأن رؤية هذا المشهد ممنوعة شرعاً على كليبات القنوات الراقصة ومسلسلات الفضائيات العربية الرومانسية الناعمة، ومدرجات الملاعب النسائية التي تشجع رغم كل ما يجري وستشجع إلى يوم الدين - إلا من رحم ربك-.
ويختم المشهد على لقطات سريعة لأن المشهد لا يحتمل على صور النزع الأخير للطفلة المدفونة تحت الأرض وقد بقي رأسها، والمسجد الذي هدم وقد بقي فيه المصحف الممزق، والأجزاء المقطوعة من الأجساد، وبقايا صرخات الأمهات،وبعض (قنينات) الدماء، لتقول بصوت واحد: كلهم يا عرب خائنين - إلا من رحم ربك- !