(1)
يوم الخميس 30/7 كان من بين عناوين الصفحة الأولى لكل من صحيفتي «الحياة» و«الشرق الأوسط» اللندنيتين ما يلي: السعودية: لا تطبيع إلا بعد السلام الشامل -لا تطبيع قبل الانسحاب من كل الأراضي وقبول مبدأ الدولتين- مسؤول خليجي: رسائل أوباما لم تطلب تطبيعا.
ومما ذكرته «الشرق الأوسط» أن السعودية جددت التأكيد على موقفها الثابت إزاء التطبيع مع إسرائيل، والذي لن يكون قبل الانسحاب الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة، وقبول تل أبيب لمبدأ الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية. هذا ما صرح به لوكالة الصحافة الفرنسية أسامة نقلى مدير الإدارة الإعلامية بالخارجية السعودية. في حين أكد مسؤول خليجي كبير للشرق الأوسط أن بلاده تلقت رسالة الرئيس الأميركي باراك أوباما بشأن اتخاذ خطوات ملموسة تجاه إسرائيل. لكن المسؤول أكد في الوقت ذاته أن هذه الرسائل لم تحمل معها أى دعوة للتطبيع في العلاقات مع إسرائيل، على الأقل في الوقت الحاضر.
"
"
في اليوم نفسه، ذكرت صحيفة «الحياة» أن واشنطن تحاول منذ ثلاثة أسابيع عبر رسائل الرئيس أوباما إلى بعض القيادات العربية وخطاب وزيرة الخارجية هيلارى كلينتون، الضغط على الحكومات العربية لاتخاذ خطوات تتعلق بإعادة فتح مكاتب المصالح التجارية الإسرائيلية في قطر وسلطنة عُمان والمغرب، إلى جانب فتح المجال الجوى أمام طائرات تجارية آتية من إسرائيل ومتجهة صوب آسيا.
يوم 3/8 نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» حوارا مع المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط جورج ميتشيل -تجاهلته أغلب الصحف العربية- نفي فيه أن تكون الدول العربية رفضت طلب الرئيس الأميركي باتخاذ خطوات للتطبيع مع إسرائيل، وقال إن هناك انطباعا خاطئا بهذا الخصوص، لأن الولايات المتحدة حصلت بشكل عام على موافقات سرية من جانب الدول العربية التي خاطبتها على التحرك نحو التطبيع.
واعتبر أن الردود التي تلقتها واشنطن «إيجابية وجيدة جدا» وهو ما تم في اللقاءات الخاصة والعلنية التي تمت مع الزعماء العرب، ومنهم مسؤولون سعوديون، وهؤلاء جميعا أبدوا استعدادا للنظر في إمكانية اتخاذ خطوات جديدة باتجاه إسرائيل، وخص السعوديين بالإشارة قائلا إنهم يريدون أن يساعدونا، وشأنهم في ذلك شأن بقية الدول العربية يتطلعون إلى إبرام اتفاق سلام يضع الأسس لإنهاء الصراع.
ما يحير المرء ويضاعف من الشكوك والهواجس لديه، أن هذا الكلام تم تداوله بعد أيام من النشر المفاجئ لمقالة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة ولى عهد البحرين في صحيفة واشنطون بوست (يوم 17/7) التي دعا فيها الزعماء العرب إلى مخاطبة وسائل الإعلام الإسرائيلية لإقناع الشعب الإسرائيلي بالمنافع التي تعود عليهم جراء إحلال السلام مع العرب. وهى المقالة التي قيل إنها نشرت بموافقة سعودية مسبقة. أليس من حقنا أن نتساءل من نصدق ومن نكذب في هذه الحالة؟
(2)
خذ أيضا حملة التعبئة الراهنة التي تهيئ المسرح لإطلاق مقترحات الرئيس أوباما لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، التي يفترض أن تعلن قبل حلول شهر رمضان. وفي أعقاب زيارة الرئيس حسني مبارك المقررة في 17 أغسطس الحالي. فقد قرأنا في مقال الدكتور عبد المنعم سعيد بالأهرام (الجمعة 8/
دعوة طالبتنا بالاستعداد وربط الأحزمة لكي نشهد انطلاقة جديدة لعملية البحث شبه المستحيلة لتسوية مشكلة الشرق الأوسط. وقد شبه المرحلة التي نحن مقبلون عليها بجولة السبعينيات التي أعقبت حرب أكتوبر، وجولة التسعينيات التي جرت بعد حرب الخليج الثانية.
وقال إن الجولة الراهنة سوف تشهد حركة محمومة من الدبلوماسية والحركة السياسية، يكون للولايات المتحدة فيها الدور الأساسي. كما ستكون هناك أدوار مشاركة قوية لدول الاتحاد الأوروبي ومصر والاتحاد الروسي ودول مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى إسرائيل وسوريا والسلطة الفلسطينية ولبنان.
فهمنا من مقال رئيس مؤسسة الأهرام أنه منذ وصول باراك إلى البيت الأبيض، بدأت الحركة المحمومة، فوق السطح وتحته، وكان البحث جاريا عن أسئلة صعبة من نوعية: من أين نبدأ، هل على الجبهة السورية الإسرائيلية، أم على الجبهة الإسرائيلية الفلسطينية؟ وهل تبدأ المفاوضات من جديد أو تبدأ من حيث انتهت في السابقات؟ وهل تقدم الأطراف المختلفة نوعا من إجراءات حسن النية، أو أن المفاوضات في حد ذاتها، بدلا من السلاح، هي أهم علامات النيات الحسنة؟
"
"
إذا صح هذا الكلام، فإنه يثير أكثر من سؤال حائر. ذلك أنه حين يتم تشبيه الحاصل الآن بما جرى في أعقاب حرب 73 وحرب الخليج الثانية، فينبغي أن نتساءل عن الحدث المهم الذي استوجب التحرك الحالي ويحشد لأجله العالم، وإذا كان وجود رئيس أميركي جديد لا يعد مبررا كافيا لذلك، خصوصا في ظل الكارثة الاقتصادية المخيمة على بلاده، فهل يكون المطلوب هو «تنظيف الطاولة» وتسكين الموقف في المنطقة العربية، ليتيسر الانصراف إلى الاهتمام بتوجيه ضربة عسكرية لإيران قبل أن تقطع شوطها الحاسم في مشروعها النووي؟
ما الذي أسفر عنه التحرك المحموم حتى الآن؟ لقد تمخض الجبل فولد فأرا. ذلك أن ثمة إجماعا في التقارير الصحفية، الأميركية والإسرائيلية، على أن الذي فاز حتى الآن هو خيار مطالبة الطرفين بتقديم ما يثبت حسن النية. للدخول في مفاوضات التسوية النهائية، وبات معلوما للجميع أن المطروح هو تجميد المستوطنات من جانب إسرائيل، مقابل الشروع في إجراءات التطبيع من جانب العرب. وذلك طرح خبيث من ناحيتين: الأولى أن العرض لم يشر بكلمة إلى جوهر القضية المتمثل في الاحتلال. والثانية أنه يثبت وضع المستوطنات التي تمت إقامتها، وكلها باطلة طبقا لقرار محكمة العدل الدولية، ويطالب فقط بوقف التوسع في الاستيطان. بما يعنى أنه يطالب إسرائيل بموقف سلبي يدعوها إلى الامتناع عن التوسع، في حين يطالب العرب بخطوات إيجابية تتمثل في بدء التطبيع مع الدولة العبرية.
الأدهى من ذلك والأمر، أننا اكتشفنا من الأخبار المنشورة في الصحافة الإسرائيلية أن الكلام كله يتحدث عن وقف «مؤقت» للاستيطان، مقابل القيام بخطوات لتطبيع دائم مع الدول العربية، قبل أي تقدم على الأرض في مسألة إنهاء الاحتلال. بل ذكرت «هآرتس» في 6/8 أن المبعوث الأميركي جورج ميتشيل يتحدث عن وقف الاستيطان لمدة سنة، في حين أن نتنياهو وافق على ستة أشهر فقط! -فهل تكون هذه هي البداية المبشرة للتحرك الأميركي «الجبار» الذي نطالب بالاستعداد للاحتفاء به؟
(3)
خذ كذلك مسألة المظلة الدفاعية الأميركية للشرق الأوسط. التي فاجأتنا بها السيدة هيلارى كلينتون في تصريحات لها في بانكوك يوم 11/7. وقالت إنها تستهدف تبديد مخاوف دول المنطقة من التهديد الإيراني، وحماية مصالح الولايات المتحدة التي قد يشملها التهديد. وقد هونت أغلب الصحف العربية شأن المفاجأة الكبيرة التي تعيد العالم العربي إلى عصر الحماية الأجنبية (الأميركية هذه المرة) في تطوير مثير لحالة الوصاية المخيمة. لكن صحيفة «الشروق» كانت أكثرها اهتماما بالموضوع، الذي كان المانشيت الرئيسي لصفحتها الأولى في يومي 3 و5 أغسطس الحالي، فيما تم نشره خلال هذين اليومين وردت المعلومات التالية:
* إن المظلة ستتخذ شكل نصف قوس كامل، يمتد من غرب إيران عند بحر قزوين إلى منطقة بحر العرب، مرورا بالبلقان والبحر الأحمر وباب المندب وشرق أفريقيا.
"
"
* ستتوفر للمظلة جميع الإمكانات المطلوبة عسكريا. من قواعد عسكرية دائمة إلى قواعد مستأجرة، وتسهيلات عسكرية تخدم المرور البحري، فضلا عن اتفاقيات دفاع مشترك، كتلك التي تم توقيعها بين الولايات المتحدة والعراق (وداعاً لاتفاقية الدفاع العربي المشترك).
* الدول المرشحة لتمويل هذه الترتيبات هي السعودية والإمارات والكويت والبحرين.
* إن المظلة الدفاعية تتكون من مجموعة من نظم البطاريات المضادة للصواريخ «باتريوت»،ومراكز تحميل معلومات رئيسية وقواعد اتصالات مركزية. كما ستتضمن أيضا طائرات «أواكس» من النوع بعيد المدى، وستتولى الولايات المتحدة تزويد القاهرة والرياض بهذه المنظومات الحديثة، حيث تعد الدولتان عضوين أساسيين في المظلة.
* في سياق ترتيب الوضع المستجد، أجرت الولايات المتحدة وإسرائيل مناورات بحرية مشتركة سرا في شهر يوليو الماضي، عند آخر نقطة بحرية في المثلث الجنوبي للحدود المصرية، على بعد 120 ميلا بحريا. ولأجل ذلك سمحت مصر بعبور المدمرتين الإسرائيليتين من قناة السويس.
نقلت «الشروق» عن خبراء إستراتيجيين قولهم إن لمصر مصلحة في إقامة تلك المظلة، بالنظر إلى حرصها على أن تكون مشاركة في أى ترتيبات لأمن الخليج. وبالنظر إلى رغبة مصر الأكيدة في موازنة النفوذ الإيراني في منطقة الخليج.
في هذه الأجواء، أبرزت الصحف المصرية الصادرة في 4/8 تصريحات الرئيس حسني مبارك التي قال فيها: إن مصر «هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي لا توجد على أرضها قوة أجنبية، وترفض سياسة القواعد الأجنبية على أراضيها، بما يجنبها أي تدخلات أو فرض نفوذ أجنبي عليها». وهو كلام مهم بطبيعة الحال، يثير أسئلة عدة تتعلق بالدور الذي تقوم به مصر في ظل الوضع المستجد. علما بأن وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي آفي ديختر كان قد ذكر في محاضرته الشهيرة والخطيرة التي ألقاها في 4/8/2008 في معهد أبحاث الأمن القومي ما نصه: إن الولايات المتحدة وإسرائيل تقومان بتدعيم الركائز الأساسية التي يستند إليها النظام في مصر.
ومن بين هذه الركائز نشر نظام للرقابة والرصد والإنذار قادر على تحليل الحيثيات التي يجرى جمعها وتقييمها ووضعها تحت تصرف القيادات في واشنطن والقدس والقاهرة. من الركائز أيضا الاحتفاظ بقوة تدخل سريع من المارينز في النقاط الحساسة بالعاصمة، ومرابطة قطع بحرية وطائرات أمريكية في قواعد داخل مصر وبجوارها في الغردقة والسويس ورأس بيناس. إلى غير ذلك من المعلومات التي كانت تستحق نفيا في حينها، وفي غيبة النفي فإنها تبقى على الحيرة وتعمقها.
(4)
الحلقة الرابعة في مسلسل البلبلة والحيرة محورها مياه النيل، التي هى بالنسبة لمصر ليست قضية أمن قومي وإنما قضية وجودية بالدرجة الأولى. ذلك أن التصريحات الرسمية تجمع على أنه لا توجد مشكلة حقيقية بين مصر والسودان من ناحية، وبين دول حوض النيل السبع. هذا ما قاله الرئيس حسني مبارك وهو ما ردده وزير الري، الذي أضاف أن الأزمة ستنتهي في شهر فبراير المقبل، بتوقيع اتفاقية دول حوض النيل في شرم الشيخ، بعد الاتفاق بين اللجان الفنية على تقريب وجهات النظر فيما يتعلق بالنقاط الخلافية، وهذه النقاط تتركز في ثلاث نقاط هي: الحفاظ على الحقوق التاريخية في مياه النيل (المتعلقة بحصة مصر والسودان) -والإخطار المسبق قبل إقامة أي مشروعات على النيل-والتصويت على القرارات بالإجماع وليس بالأغلبية.
"
"
هذا الكلام المطمئن يتعارض مع التصريحات الصادرة عن المسؤولين خصوصا في إثيوبيا وأوغندا، الذين يرون ضرورة تعديل اتفاقية توزيع مياه نهر النيل، التي تعطى مصر حق الاعتراض على استخدامات مياه النهر. وقالت وزيرة المياه والبيئة الأوغندية ماريا موتا جامبا في تصريح نشرته صحيفة الدستور (عدد 9/
إنها أخبرت دول المنابع الست بأنه يجب التوصل إلى اتفاقية جديدة لتوزيع المياه خلال ستة أشهر، وأن التركيز في التعديل ينصب على المادة 19 من اتفاقية مياه النيل التي تمكن مصر والسودان من الهيمنة على استخدامات النهر ومياهه.
في الوقت ذاته، فإن الكلام الرسمي المطمئن يتعارض مع الأخبار الواردة من السودان التي تتحدث عن دور لإسرائيل في إثيوبيا لإفشال المفاوضات الجارية حول اتفاقية دول حوض النيل، والتي تحفظ لمصر حقوقها التاريخية، وتمكنها من الاحتفاظ بحصتها في المياه (55.5 مليار متر مكعب سنويا). وإزاء هذه البلبلة، فإن الحقيقة ستظل تائهة، في حين سيُضاف فصل جديد إلى سجل الحيرة وأزمة الثقة، بحيث يظل المستقبل العربي مسكونا بالغموض المختلط بالإحباط وخيبة الأمل.